الاثنين، 5 فبراير 2018

بعيدا عن الضجيج ..


صافرات الإنذار تتعالى ليلا، منذرة بقدوم غارة جوية على احدى ضواحي برلين ..
يخرج المدنيون من بيوتهم متجهين إلى قبو مخصص للإحتماء من الغارات الجوية ..
يجلسون متجاورين في وجوم تصم آذانهم أصوات القصف المرعبة ..

**********

سنوات عديدة مرت منذ أن بدأت في التدوين، منذ أن بدأت في الكتابة عن أفكاري وحكاياتي الشخصية، وعن حكايات تتناول ببساطة أمورا من الشأن العام .. سنوات وأحداث عديدة، كفيلة بتغيير الكثير بداخلي، تغيير يجعلني أتعجب كلما قرأت بعضا مما كتبته تلك الفتاة المتفائلة التي كنتها قبل سنوات ..

حقيقةً، ينجح الفيس بوك في كل يوم في رسم إبتسامة واسعة على وجهي حينما يريني ما كتبته وما شعرت به في ذات اليوم منذ سنوات .. أجد بين سطور كتاباتي -التي مر عليها ما يقارب العشر سنوات- فتاة صغيرة حالمة، ترى الأمور ببساطة، وترى المستقبل برومانسية حالمة، وتشغل نفسها بكل صغيرة وكبيرة تحدث في بلدها أو في خارجه، وتناقش في جرأة كل شيء وأي شيء، وتظن أن ما تكتب أو تشارك على مدونتها أو على صفحتها الشخصية قد يصنع فارقا في هذا العالم ..

واليوم تغيرت تلك الفتاة .. أصبحت، وبعد محاولات عدة بذلتها، لا تعير الشأن العام إلا جزءا محسوبا من إهتمامها، تحاول الحفاظ على ما بقي لها من سلامها النفسي .. تتابع بالقدر الذي تستطيع معه ممارسة حياتها بشكل طبيعي، لا يعنيها في وسط كل تلك الصراعات وذلك الجنون سوى الإنسان، الذي كتب عليه أن يدفع الثمن لكل ذلك، وأن يتعرض للظلم والقهر على طول الخط .. تحاول الكتابة عن أفكارها وذكرياتها وحكايتها بعيدا عن كل مايحدث ..

إلا أنها، وفي كل مرة تمسك بقلمها لتخط تلك الأفكار التي تملأ رأسها ضجيجا ..تتساءل، هل نملك ترف الكتابة عن أفكارنا وأحلامنا وفلسفتنا في الحياة وسط هذا الجنون الذي نعيشه في كل يوم ..

**********

عشرات المدنيين يجلسون متجاورين في ذلك القبو الكئيب، يشملهم الصمت والوجوم، يزيد من تلف أعصابهم أصوات بكاء أطفالهم المرتعبين ..
إلى أن تقرر تلك الفتاة الصغيرة الذكية أن تبدأ في الكلام لتقطع ذلك الصمت ..

**********

إنه الإختيار المؤلم الذي اضطررت إليه، واضطر إليه مثلي كثيرون من أبناء جيلي .. تجاهل الشأن العام، وتجنب الحديث عن تفاصيله العبثية .. لم نضطر إليه خوفا أو تخاذلا، وإنما توفيرا لوقتنا ومجهودنا الذهني وسلامنا النفسي بدلا من الخوض فيما لا طائل من ورائه ..
إنه الهرب الدائم من الأحداث المؤلمة التي تلاحقنا تفاصيلها في كل وقت لتذكرنا بعجزنا أمامها ..

ربما لو كنت أعيش في بلاد بعيدة عن تلك البقعة الموبوءة من العالم، كنت سأتحدث بأريحية عن الورود والفراشات والأطفال .. كنت سأتحدث عن كيفية اقتناص اللحظات السعيدة، وكيفية التأمل في اللاشيء، بينما نشرب كوبا من عصيرنا المفضل .. 
ولكن قدري أن أعيش في هذه البقعة من العالم، في هذا الزمن بالذات، لأعايش كل تلك الأحداث، وتطاردني كل تلك الأخبار، وكأن كل القوى اتحدت لتسلبني سلامي النفسي، ولتجعل كل نشاط إنساني طبيعي أمارسه مدعاة للشعور بالذنب.

**********

يبدأون واحدا تلو الآخر في الإلتفات إليها ..ويبدأ صوت بكاء الأطفال في الخفوت تدريجيا وهم يستمعون إلى صوتها الهادئ العميق ..
يطلبون منها أن ترفع صوتها ليتبينوا كلماتها ..
ترفع صوتها .. وتكمل كلماتها .. حكاية من تأليفها، تحكيها لهم فيندمج معها كبيرهم وصغيرهم .. يبتسمون، ويقطبون ويترقبون، وكأن شيئا لا يحدث بالخارج .. يطغى صوتها الهادي الجميل على أصوات القصف والإنفاجارات المخيفة بالخارج رغم شدتها .. تمر عليهم تلك الدقائق الثقيلة سريعة ومسلية على غير العادة ..

**********

ثم كان ذلك المشهد الملهم من فيلم the book thief 
ذلك المشهد ألهمني أن أستمر، وزادني ثقة بما أبرع في فعله .. لا تطلبوا مني أن أناقش أياً من الأحداث الدائرة .. اتركوني أكتب عن عالم آخر مواز، عالم أقل ضجيجا، عالم لاقتل فيه ولا دماء، لا ظلم ولا تقييد للحريات ..
استمعوا إلى حكاياتي وتجاهلوا ذلك الضجيج المؤلم الذي يصم الآذان بالخارج .. استمعوا، واضحكوا وابكوا، وانفصلوا عن الواقع قليلا .. فالواقع أقسى وأعنف من أن نواجهه، وأقذر وأحط من أن نتعايش معه ونتقبله .. إذن فتلك الفقاعة هي الحل .. ذلك القبو الذي ننزل إليه بانتظام كلما أردنا أن نرتاح قليلا من ذلك الضجيج الذي يصم الآذان بالخارج، وتلك التفاصيل المؤلمة التي لا تنتهي ..

 وأنتم، لا تدعو أرواحكم تذبل مع تفاصيل ذلك العالم الكئيب، لا تنهكوا أرواحكم بمتابعة كل صغيرة وكبيرة، لا ترهقوا أذهانكم في التفكير والتساؤل كيف ينهي هذا الجنون، فمن الواضح أنه لن ينتهي قريبا، بل ربما تنتهي سني عمرنا في هذه الدنيا قبل أن ينتهي .. تجاهلوه لبعض الوقت، واصنعوا لأنفسكم واقعا آخر مواز، ولا تسمحوا لأحد أن يدفعكم للشعور بالذنب حيال ذلك، تحدثوا عن الثقافة والفن والأفلام .. تشاركوا النكات والحكايات واضحكوا ملء أفواهكم، لا تخجلوا من شغفكم بالحياة، مهما كانت ظروفكم ومهما بلغت آلامكم .

إنها ليست دعوة لليأس، بل دعوة لإنقاذ أنفسنا وأرواحنا المثقلة بالألم .. فإنسان بروح منهكة وقلب مثقل بالهموم لن يستطيع أن يحقق أحلاما، أو يربي أطفالا، أو يمارس حياته بشكل طبيعي.

القليل من التفاصيل لا تضر، ولكن الإغراق في التفاصيل، والمتابعة الدائمة حتما تضر وتقتل بداخلنا الرغبة في الإستمرار والحياة ..



الاثنين، 1 يناير 2018

يا ورق الأصفر .. عم نكبر عم نكبر


أسير كعادتي حول ملاعب الكرة في انتظار إنتهاء أطفالي من تدريباتهم ..

أمر بجانب بعض الصبية الذين يلعبون الكرة في أحد الملاعب، يركل أحدهم الكرة بقوة فتخرج من الملعب لتستقر أمامي ..

ينادي أحدهم بصوت أجش "لو سمحت، ممكن الكورة"، فأمسك الكرة وألقي بها إليهم، لتأتيني الإجابة الصادمة بنفس الصوت الأجش .. "شكرا ياطنط" 

أقف في مكاني لبضع ثوان لأستوعب رده .. "طنط"!!

ربما لم أعتد تلك المواقف بسبب مظهري الخادع الذي لا يوحي بعمري ..

تلك الموظفة التي سألتني منذ عدة أسابيع قبل أن تعطيني إستمارة ما لأملأها "فوق ال 18 ولا تحت ال 18؟"

ذلك البائع الذي قال لأمي ونحن نشتري بعض الأشياء سويا أثناء حملي في طفلي في شهور الحمل الأخيرة "عقبال ما تفرحي بيها"

ثم استدرك بعد ما رأى الدهشة على وجه أمي "بس طبعا الشهادة الأول"

والآن يقول لي هؤلاء الصبية الكبار طوال القامة "طنط" !

تابعت سيري وأنا لازلت لا أصدق أنني أصبحت "طنط" بالنسبة لهؤلاء

----------------------------------------------

في قهوة ع المفرق .. في موقدة وفي نار ..
نبقى أنا وحبيبي نفرشها بالأسرار ..
جيت لقيت فيها .. عشاق اتنين صغار، قعدوا على مقاعدنا ..
سرقوا منا المشوار ..

----------------------------------------------

إنها الحقيقة يا صديقي .. يا رفيق الثمانينيات .. نحن نكبر ..

أصبحنا طنط وعمو .. أصبحنا ولي الأمر الذي يطلبونه في الحضانة، ثم في المدرسة ..

أصبحنا مصدرا للأمان لأحدهم .. كبرت كفوفنا الصغيرة، لتصبح كفوفا كبيرة تتشبث بها أخرى صغيرة بريئة، تستهدي بها وتستمد منها الأمان ..

أصبحنا مصدرا للإجابات عن تساؤلات كثيرة لصغار يخطون أولى خطواتهم في الحياة .. يسألونك عن كل شيء وأي شيء، تتعلق عيناهم بك في ترقب في انتظار كل كلمة تخرج من فمك ليرسموا بها فكرتهم عن الحياة ..

أصبحت مثلا أعلى لأحدهم .. يرقب كل فعل وكل كلمة تصدر منك ليقلدها .. فترى فيه نفسك كما لم ترها من قبل .. بعيوبها قبل مميزاتها .. بقوتها وضعفها ومخاوفها ورؤيتها للأمور..

تخيفك تلك المسؤولية .. فتحسب ألف حساب لكل تصرف وكل كلمة .. تتحسس خطواتك في حذر .. فدائما هناك من يراقب في فضول ..

----------------------------------------------

ياورق الأصفر عم نكبر عم نكبر
طرقات البيوت عم تكبر عم تكبر ..
تخلص الدنيي .. ومافي غيرك يا وطني
ياوطني .. آه بتضلك طفل صغير ..

----------------------------------------------

مع بدايات مرحلة الثلاثينات تبدأ في اكتشاف تلك الحقيقة .. أنا لم أعد صغيرا مستقلا رائق البال ..

لقد كبرت .. وازدادت مسؤولياتي .. تغيرت حياتي وتغيرت نظرتي للأشياء ..

تبدأ في اجترار تفاصيل الطفولة والصبى .. يكون حنينك لتك التفاصيل على أشده ..

تجتهد في محاولاتك لإعادة لحظات وتفاصيل أيامك الماضية ..

تستمع للأغاني التي اعتدت سماعها في تلك الفترة، ليس لأنها الأحلى، وإنما لأنها تأخذك من يدك في رفق لتعيدك إلى طفولتك ومراهقتك، لتعيد إليك تلك الأحاسيس البريئة التي تفتقدها ..

تبحث في أرفف المتاجر عن حلوى اعتدت شراءها في صغرك .. وتفرح بها كطفل صغير إذا وجدتها .. ثم تجتهد في اخفائها في أدراجك وبين أغراضك خوفا من أن تصل إليها أيدي تلك الكائنات الصغيرة الحبيبة قبلك، ثم تختلي بها بعد أن يناموا لتأكلها في نهم طفولي..

تعلم أطفالك الألعاب التي اعتدت أن تلعبها في طفولتك .. المنديل، السلم والثعبان، لعبة الإختباء ..  وتستمتع بمشاركتهم اللعب متناسيا أنك لم تعد ذلك الطفل الصغير خفيف الحركة الذي يتسلل هاربا بالمنديل ليفوز على الفريق الآخر .. أو يجري في رشاقة عائدا إلى "الأمة" قبل أن يمسك به رفيقه ..

تبتسم في سعادة وأنت تقرأ وتشاهد الصور في صفحات الفيسبوك الموجهة إلى مواليد الثمانينيات .. تتذكر تلك التفاصيل الصغيرة التي مر عليها الكثير من السنوات .. شكل المسطرة والمقلمة وحقيبة المدرسة .. شكل أغلفة الحلوى في ذلك الوقت .. أغاني حلقات الرسوم المتحركة التي أحببت مشاهدتها .. لم تتكن تتصور أن تلك التفاصيل الصغيرة ستكون مصدر لسعادتك ومثارا لحنينك الجارف ..

----------------------------------------------

وكان وكان وكان .. أولاد وبنات جيران ..
براءة ف كل قلب .. وعيون مليانة حب ..
كبرنا وعدى عمر .. أخدنا لميت مكان ..

----------------------------------------------

تمر السنين .. تستمر في طريقك ..
تلتفت إلى الخلف لتجد أنك ابتعدت كثيرا عن الشاطىء ..
كل شيء أخذ في الابتعاد .. وانت مستمر في التوغل في ذلك البحر متقلب المزاج ..
أحيانا تعلو أمواجه .. وأحيانا تسكن كطفل مسالم نائم في هدوء ..
تحاول ألا تأخذك الحياة بتفاصيلها فتنسى أحلامك المؤجلة ، ورفاق رحلتك ..

تجاهد لتحافظ على ذلك الطفل الصغير بداخلك .. الطفل الذي يبحث عن السعادة في تفاصيل حياتك البسيطة، ويدفعك للتجارب الجديدة في جذل متجاهلا الحسابات والخطط، ويجلب الإبتسامة إلى وجهك رغم الإنشغال والمسؤوليات ..

وتدرك في تلك المرحلة أنك الآن تصنع ذكريات أطفالك، وتلون صفحات عمرهم البيضاء، كما صنعت ذكريات طفولتك من قبل،  ولونت أيامها ..

فتحاول أن تبدع في اختيار الألوان .. علك تجلب بسمة إلى وجه أحدهم بعد أن يمضي به العمر ..

----------------------------------------------

تعا تا نتخبى من درب الأعمار
وإذا هن كبروا نحنا بقينا صغار
سألونا وين كنتوا .. وليش ما كبرتوا انتوا !
بنقلن نسينا..

----------------------------------------------

فيروز – في قهوة ع المفرق – يا دارة دوري بينا

حنان ماضي – كان وكان

 

السبت، 2 أبريل 2011

إلى الجنة ..



"اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك"

هكذا دعا الامام في دعاء القنوت في ذلك اليوم ..

كثيرون قالوا آمين .. ولكن حين قالتها هي، كانت تختلف .. كانت تخرج من قلبها مباشرة..

لم يشبها تعلق بالدنيا، أو قلق على أمها العجوز التي ليس لها غيرها في هذه الدنيا .. فهي تعلم أن ربها أرحم بأمها منها .. وأنه حين يرزقها الشهادة .. سيدبر أمر أمها ويرزقها من حيث لا تحتسب ..

وهي تعلم أن هذه الدنيا قصيرة .. وأنها إذا استشهدت، برغم أن أمها ستحزن عليها حزنا شديدا .. ولكن يوم اللقاء قريب .. وستفرح بها أمها كثيرا حين تراها في مقام الصديقين والشهداء والصالحين، وحين تشفع فيها ابنتها وتأخذ بيدها إلى جنة الخلد .. حيث لا تعب ولا ظلم ولا فراق ..

لم تكن تتخيل كيف لفتاة عادية مثلها أن ترزق الشهادة .. فهي ليست مقاومة أو مجاهدة .. حياتها عادية جدا .. تذهب صباحا إلى عملها البسيط لتدبر قوتها هي وأمها ثم تعود لتساعد أمها في المنزل إلى أن تنام من الإرهاق ..

******

وحين قال هو "آمين" أيضا كانت تختلف .. كانت صادقة جدا .. وتحمل كل ما بداخله من شوق ..

لم يكن يتخيل أيضا كيف سينالها .. فهو ليس مجاهدا ولم يستعمل في حياته سلاحا .. كل ما يملكه هو الكاميرا الخاصة به التي يلتقط بها صورا متميزة .. وفنه الذي يعلمه لتلاميذه في الجامعة ..

لا يدري كيف لفنان مسالم مثله أن يكون شهيدا .. ولكنه يثق كل الثقة في وعد الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يطلب الشهادة بصدق أن ينالها .. وهو يحس بأن قلبه صادق في طلبها ..

لربما من له مثله زوجة وطفلين صغيرين، يخاف على نفسه من أي ضرر ليرعاهم .. أما هو، فعنده يقين حقيقي أنه حين ينال الشهادة لن يضيع الله أحبته .. وسيخلفه في بيته .. وسيربي له أبناءه أفضل بمرات مما كان سيفعل هو ..

أما يوم اللقاء .. فسيلقى من تركهما طفلين صغيرين لا يعيان شيئا .. شاب وشابة ناضجين ومعهما أمهما فخورة بهما .. وسيأخذ بيدهم إللى جنة الخلد حيث لا تعب ولا ظلم ولا فراق ..

هو فقط لا يريد لهم أن يحزنوا على فراقه .. ولكنه يعلم أنه سيلقاهما سريعا ..

*******

ككثيرين، لم يكونا راضيين عن حال وطنهما .. وهذا ما دفعهما للنزول في جمعة الغضب ..

كانت تصرخ من كل قلبها ضد النظام وهي تذكر أمها المريضة التي لا تملك أن تعالجها .. والغرفة الضيقة التي تعيشان فيها .. والمال القليل الذي تقبضه في آخر الشهر والذي بالكاد يكفي لإطعامهما .. وأحلامها التي وإدت قبل حتى أن تولد ..

وكان يصرخ من كل قلبه مع المتظاهرين .. ويلتقط صورا لهم .. وهو يذكر طفليه اللذان يود لو يعطيهما الدنيا كلها .. ويعلمهما في أحسن المدارس .. ثم يتذكر حياته المتواضعة "المستورة"، ومرتبه المتواضع من الجامعة الذي بالكاد يكفيه هو وأسرته .. ثم يتذكر طلبته في الجامعة وحماسهم المتقد، ورغبتهم في العمل والتغيير .. والعقبات الكثيرة التي توضع في طريقهم ليستمروا في السير "جنب الحيط" .. والظلم الذي يقع على من يحاول تجاوز تلك العقبات ..

هي كانت خائفة من زيهم الأسود المقبض .. ورصاصهم المطاطي .. وقنابلهم المسيلة للدموع .. نعم كانت خائفة ولكنها ليست جبانة، لأن خوفها لا يجعلها تتراجع، بل هي ماضية بقوة مع الجموع ..

تنظر في العيون المليئة بالعزيمة من حولها لتستمد منهم الشجاعة والقوة .. فيعلوا صوتها شيئا فشيئا .. تحس بقرب النصر .. وتتمنى لو تعود سريعا لتحكي لأمها عن ما شاهدته ..

وهو كان يحمل كاميرته ويصور هنا وهناك .. ليسجل كل ما يحدث .. كان يؤلمه أن يرى القبح والظلم متجسدان في مواجهتهم .. ولكنه أراد أن يوثق كل شيء للتاريخ ..

وبواسطة عدسة كاميرته المتطورة .. كان يستطيع أن يرى القناصة، فكان يحذر من حوله منهم .. كان يتمنى أن يعود سريعا لينشر ما رأى ويثبت للتاريخ من هو المخرب الظالم .. ومن يناضل لينقذ الوطن ..

ولكنهما لم يكونا يعلمان أنهما لن يكتب لهما أن يعودا ..

*******

هو .. كان متمركزا في موقعه المتميز .. هناك، فوق سطح أحد المباني التي تطل على الميدان .. يستطيع أن يرى كل شيء يحدث بوضوح ..

يمسك ببندقيته .. في وضع الاستعداد كما جاءته الأوامر .. اليوم أخيرا سيستبدل الدمى الحشبية التي اعتاد أن يصوب عليها نيران بندقيته بأشخاص حقيقيين ..

يحس برهبة الموقف .. فأمامه جموع حاشدة .. لكل فرد منهم حكاية وأهل وأحبة .. معظمهم شباب .. بالتأكيد لهم خطط وآمال للمستقبل .. وبضغطة زناد منه تنتهي قصة وتبدأ أخرى ..

اختيار صعب .. يصوب بندقيته .. يفتح عينا ويغلق أخرى وينظر من خلال عدسة البندقية ..

إمم .. هذا الشاب ذو القميص الأبيض يبدو هدفا جيدا .. يضغط الزناد .. وهذا ذو البنطال الأزرق .. فيضغط .. وتلك الفتاة .. يبدو عليها الحماس وكأنها لا تخشى شيئا .. فيضغط .. هكذا بضغطة واحدة .. تنتهي قصة بأكملها .. التفاصيل والحياة والمشاوير والأحلام والأصدقاء .. تنتهي كلها في لحظة

يتساقطون أمامه واحدا تلو الآخر .. إلى أن يرآه ..

رآه يحمل كاميرته ويصوبها نحوه في شجاعة .. تلتقي الأعين للحظة .. كاميرا في مواجهة بندقية .. وحين ضغط الشاب الزر والتقط الصورة .. قرر أنه سيكون ضحيته التالية .. لم يتردد .. وضغط الزناد .. وظن أنه انتصر

********

"اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك"

هكذا دعا الامام في دعاء القنوت في ذلك اليوم ..

كثيرون قالوا آمين .. ولكن حين قالها هؤلاء كانت تختلف .. كانت تخرج مباشرة من قلوب صادقة .. تتمنى لقاء ربها ..

قالوها بحرقة .. "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا"

  • متستوحاه من قصص حقيقية للشهداء.


الثلاثاء، 22 مارس 2011

الفستان الأبيض



طفلة صغيرة كنت .. حينما أعطوني شمعة طويلة - في مثل طولي تقريبا – لونها أبيض ومزينة بالورود واللآلئ الصغيرة .. وأوقفوني في صف أنا وأختي وإبنة خالي لكي نسير بجانب العروس وعريسها في الزفة ..

كنت وكأنني أعيش حلما .. لم أكن أصدق أنني أحمل الشمعة وأسير بجانب عروس حقيقية ترتدي فستانا أبيضا منفوشا .. وأوصلها إلى باب القاعة .. كنت أحس أنن أؤدي عملا عظيما ..

كنت –وكأي طفلة – أنظر للعروس في زفافها وكأنها كائن أسطوري، وليست إنسانة طبيعية مثلنا .. لربما تكون قريبة لي أو أعرفها وأتعامل معها في الحياة الطبيعية، ولكن في ذلك اليوم هي كائن آخر .. كائن ساحر .. لربما كان هذا الفستان الذي ترتديه من صنع تلك الساحرة الطيبة التي صنعت لسندريللا فستانها .. ولربما ستتحول تلك الدبابيس اللامعة في شعرها إلى عصافير ملونة بعد منتصف الليل .. أما حذاءها فهو بالتأكيد الوسيلة التي سيتمكن بها عريسها أن يصل إليها إذا حدث وهربت لأي سبب ..

أما اليوم .. أجلس أنا أمام المرآة في غرفتي في ذلك الفندق بعد أن ارتديت فستاني الأبيض .. وأسلم رأسي للكوافيرة وهي تنسق لي حجابي وطرحة زفافي .. أنظر إلى المرآة .. وأنا أذكر تلك الطفلة التي كنتها .. والتي بعد لم تصدق أنها اليوم ستكون هي ذلك الكائن الأسطوري ..

أتأمل فستاني الأبيض المطرز بالزهور واللآلئ .. وحجابي الذي فضلت أن يكون طرحة كبيرة كما أرتدي عادة .. وتاج الورود البيضاء الملائكي الذي اخترت أن أرتديه اليوم .. ووجهي الخالي من الأصباغ .. فأراني ذات الطفلة التي كانت تحلم أن تتزوج .. لا لشيء إلا لكي ترتدي كما ترتدي العرائس.

وفي هذا اليوم تحقق الحلم .. ارتديت الفستان الأبيض وحملت الورود وسرت أنا وأنت في الزفة وذراعي في ذراعك .. ورأيت الفرحة في عيون أمي وأبي وأخوتي وأحبتي .. وجلسنا جنبا إلى جنب في الكوشة .. كان يوما ساحرا .. حقق الله لي فيه دعوات كثيرة دعوت بها قبلا .. وأنعم علي نعما لا تحصى ..

إلا أن الهدية الكبيرة التي منحها الله لي في ذلك اليوم .. والتي لازلت أحمده عليها كل يوم .. ليست الفستان الأبيض ولا الورود ولا الزفة ولا الكوشة ولا غيرهم .. وإنما تلك الهدية هي .. أنت

الاثنين، 24 يناير 2011

حنين

تقضي يومها في ترقب .. فغدا ميعاد السفر، وكالعادة، مرت الأجازة الصيفية هذا العام سريعا .. وغدا سيعودون إلى حيث يعمل أبويها، وإلى حيث توجد مدرستها هي وأختها وأخيها ..

اعتادوا أن يقضوا شهور الاجازة الصيفية سنويا في مصر، بين أهلها وجيرانها، الذين تشتاق إليهم كثيرا ..

هي لا تكره السفر، فلها هناك أيضا أصدقاء وحياة جميلة، ولكنها تحب الحياة في وطنها، وسرعان ما تعتادها وتألفها في شهور الصيف القليلة .. قبل أن تفارقها مرة أخرى ..

تحب اجتماع العائلة، واللعب مع أقاربها، وتحب شارعها وجيرانها .. تحب ذكرياتها هنا، كما تشتاق أيضا لحياتها هناك .. وكلما أتت إلى هنا، سافرت ومعها الكثير والكثير من الذكريات والصور التي تظل معها إلى أن تعود في الصيف التالي ..

تجلس في غرفتها بعد العصر، في أشعة الضوء المتسللة من بين ضلفتي الشيش الموارب لترسم مساحة مضيئة على أرضية الغرفة .. وترى الذرات الذهبية التي تسبح في هدوء في هذه الأشعة .. وتتذكر كيف كانت هذه الغرفة الهادئة المرتبة، والتي تغطي الأغطية السميكة أثاثها لتحافظ عليه في مغيبهم، مفعمة بالحياة والصخب .. هنا كانت تجلس مع أختها وابنة خالها لساعات يطعمون عرائسهن ويمشطون لهن شعورهن، ويتظاهرن أنهن أمهات ناضجات .. وفي هذه الغرفة كانوا يطفئون الأنوار ويختبئن في الظلام ويكتمن أنفاسهن، ثم تبحن عنهن احداهن، ويكتمن الضحكات وهن يسمعنها تتعثر وتقوم .. إلى أن تمسك بواحدة منهن ليكون دورها في البحث ..

تتذكر لعبها اليومي مع أطفال الجيران .. المنديل، وكهربا .. والسباق بالدراجات حول بيوتهم ..

وتتذكر بدايات تعلمها ركوب الدراجة، دراجة أخيها الصفراء الصغيرة التي كانت تتعلم عليها .. في البداية كانت تستخدم السنادات من الجانبين، ثم أزالت واحدة وأبقت الأخرى لتعود نفسها على الاستغناء عنهم تماما .. وبعد محاولات عديدة، ومرات كثيرة من السقوط .. ومساعدات والديها في الإمساك بها أثناء محاولاتها، استطاعت أخيرا أن تسير بالدراجة وحدها ..


تتذكر الأيام التي كانت تقضيها عند عمتها، ولعبها مع أبناء وبنات عمها .. وسفرها معهم إلى الاسكندرية أو مرسى مطروح لقضاء الوقت بين نزول البحر والتمشية وركوب الدراجات ..

تتذكر الياسمينة التي زرعتها جدتها في حديقة منزلهم، والتي صعدت حتى وصلت إلى شرفة منزلهم في الدور الثالث .. وشجرة الجوافة التي زرعها جدها –رحمه الله- في الحديقة، والتي كانت تقوم هي وأخوتها وأولاد خالها بقطف ثمارها سويا وتناولها ..

ذكريات .. ذكريات .. ذكريات .. كلها ستضاف إلى ذكريات أخرى تحملها عن وطنها لتؤنسها في غربتها .. إلى أن تعود في الصيف المقبل .. لتحيا تلك الحياة التي تحبها من جديد ..

غدا ستسافر مئات الأميال إلى حيث حياتها ومدرستها وأصدقائها وهي تحمل معها كنزا من الذكريات والحكايات الجميلة .. وهي لا تدري أن بعد عدة سنين، ستصبح حياتها في تلك المدينة البعيدة مجرد ذكريات تحن إليها هي الأخرى وتتمنى زيارتها ..

الأحد، 5 ديسمبر 2010

سيزيف 2010 *



تقف أمام الحوض المليء بالأواني المستعملة .. وتنظر إليها في يأس ..
وتفكر أن "يااااه، ده السكة طويلة أوي"
تشمر أكمامها وتبدأ المعركة ..
وبعد بعض الوقت .. طال أو قصر ..
تقف أمام الحوض الفارغ النظيف .. تنظر في فخر إلى آثار انتصارها
الأطباق النظيفة المتراصة .. والأكواب اللامعة .. والأواني المقلوبة رأسا على عقب لتصفي مائها ..
والحوض الفارغ ..
وتفكر أن "أخيرا هرتاح"
ثم بعد قليل تصنع الطعام .. ويجلسان سويا ليأكلان ..
*********
تقف أمام الحوض المليء بالأواني المستعملة .. وتنظر إليها في يأس ..
وتفكر أن "يااااه، ده السكة طويلة أوي"
تشمر أكمامها وتبدأ المعركة ..
وبعد بعض الوقت .. طال أو قصر ..
تقف أمام الحوض الفارغ النظيف .. تنظر في فخر إلى آثار انتصارها
الأطباق النظيفة المتراصة .. والأكواب اللامعة .. والأواني المقلوبة رأسا على عقب لتصفي مائها ..
والحوض الفارغ ..
وتفكر أن "أخيرا هرتاح"
ثم بعد قليل تصنع الطعام .. ويجلسان سويا ليأكلان ..
*********
تقف أمام الحوض المليء بالأواني المستعملة .. وتنظر إليها في يأس ..
وتفكر أن "يااااه، ده السكة طويلة أوي"
تشمر أكمامها وتبدأ المعركة ..
...........................................



******************************************************************************
*أسطورة سيزيف:
أسطورة اغريقية تقول بأن سيزيف قد تم الحكم عليه كنوع من العقاب أن يقوم بدحرجة صخرة ضخمة لأعلى قمة جبل، وكلما وصل إلى القمة تتدحرج الصخرة لتسقط إلى القاع مرة أخرى فينزل لاحضارها .. وهكذا إلى الأبد